مقدمة:
بعد انتهاء عصر الخلفاء الراشدين، دخل التاريخ الإسلامي منعطفاً حاسماً بتأسيس دولة غيّرت شكل الخلافة ومعنى الحكم إلى الأبد. هذه هي الدولة الأموية (661-750م)، أول إمبراطورية وراثية في الإسلام، والتي حولت عاصمة الخلافة من الحجاز والعراق إلى دمشق النابضة بالحياة. خلال قرن واحد من الحكم، قاد الأمويون موجة هائلة من الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي، فوصلت جيوشهم شرقاً إلى حدود الصين وغرباً إلى شواطئ المحيط الأطلسي وقلب أوروبا.
لم تكن مجرد دولة توسع عسكري، بل كانت أيضاً ورشة عمل حضارية كبرى شهدت تعريب الدواوين، وسك أول عملة إسلامية، وبناء معالم معمارية خالدة مثل قبة الصخرة والمسجد الأموي. هذا المقال هو رحلة لاستكشاف تاريخ الدولة الأموية، منذ تأسيسها المثير للجدل على يد معاوية بن أبي سفيان، مروراً بذروة مجدها وقوتها، وصولاً إلى الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة الأموية الدراماتيكي على يد العباسيين.
فهرس المحتويات:
من الخلافة إلى المُلك: كيف تأسست الدولة الأموية؟
كانت ولادة الدولة الأموية نتيجة مباشرة لأخطر أزمة سياسية شهدها المسلمون في تاريخهم المبكر، وهي “الفتنة الكبرى” التي اندلعت بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. أدت هذه الفتنة إلى انقسام حاد في صفوف المسلمين، وبلغت ذروتها في الصراع بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، والي الشام وقريب عثمان بن عفان.
طالب معاوية بالقصاص من قتلة عثمان، ورفض مبايعة علي بن أبي طالب حتى يتم ذلك، مما أدى إلى مواجهات عسكرية أشهرها معركة صفين عام 657م. انتهت المعركة باللجوء إلى التحكيم، الذي لم يحل النزاع بل زاد من تعقيده، وأدى إلى ظهور فرقة الخوارج. بعد استشهاد علي بن أبي طالب على يد أحد الخوارج عام 661م، بويع ابنه الحسن بن علي بالخلافة في الكوفة.
في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، اتخذ الحسن بن علي قراراً حكيماً حقن به دماء المسلمين. تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، وفق شروط تهدف إلى لم شمل الأمة. عُرف هذا العام بـ “عام الجماعة”، حيث اجتمعت كلمة المسلمين مجدداً تحت راية واحدة. وبذلك، انتقلت عاصمة الخلافة إلى دمشق، وبدأ عهد الدولة الأموية، وتحول نظام الحكم من الخلافة القائمة على الشورى إلى نظام وراثي، حيث عهد معاوية بالخلافة من بعده لابنه يزيد، لتصبح هذه سابقة اتبعها معظم الحكام المسلمين من بعده.
معاوية بن أبي سفيان: دهاء سياسي أم انحراف عن الشورى؟
يعتبر معاوية بن أبي سفيان (حكم 661-680م) المؤسس الحقيقي للدولة الأموية. شخصية تاريخية معقدة ومثيرة للجدل، يراه البعض ملكاً داهية وسياسياً محنكاً نجح في توحيد الدولة وتوسيعها، بينما يراه آخرون أول من حوّل الخلافة الراشدة إلى “مُلك عضوض” قائم على الوراثة.
بغض النظر عن التقييمات، لا يمكن إنكار أن معاوية كان رجل دولة من الطراز الرفيع. استخدم “سياسة الشعرة” التي قال عنها: “لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”. اشتهر بحلمه وصبره وقدرته على استمالة خصومه بالعطاء والهدايا. في عهده، استقرت الدولة بعد سنوات من الفوضى، وأنشأ أول أسطول بحري إسلامي قوي، وواصل حركة الفتوحات، ونظم البريد، وأسس الدواوين على الطراز البيزنطي.
لكن الخطوة الأكثر تأثيراً وجدلاً في عهده كانت أخذه البيعة لابنه يزيد ولياً للعهد. كانت هذه سابقة خطيرة كسرت مبدأ الشورى الذي قامت عليه الخلافة الراشدة، وفتحت الباب أمام الصراعات الأسرية على الحكم. لقد ضمنت هذه الخطوة استمرار الحكم في بيته، لكنها أسست لنظام حكم وراثي سيصبح القاعدة في تاريخ الدولة الأموية وما بعدها.
ذروة القوة: عبد الملك بن مروان وأبناؤه
بعد وفاة معاوية وابنه يزيد، دخلت الدولة الأموية في فتنة ثانية كادت أن تقضي عليها، حيث ثار عبد الله بن الزبير في الحجاز وأعلن نفسه خليفة. لكن الأمويين استطاعوا استعادة زمام المبادرة مع تولي عبد الملك بن مروان (حكم 685-705م) مقاليد الحكم. يعتبر عبد الملك المؤسس الثاني للدولة، حيث نجح في القضاء على ثورة ابن الزبير، وأعاد توحيد الإمبراطورية من جديد.
كان عبد الملك بن مروان وأبناؤه الأربعة الذين خلفوه (الوليد، سليمان، يزيد، وهشام) يمثلون العصر الذهبي للدولة الأموية. في عهدهم، وصلت الدولة إلى أقصى درجات القوة والاستقرار والازدهار. كان عبد الملك رجل دولة قوياً وحازماً، وهو الذي قام بأهم الإصلاحات الإدارية التي ثبتت أركان الدولة وأعطتها هويتها الخاصة. أما ابنه الوليد بن عبد الملك (حكم 705-715م)، فقد كان عهده ذروة الفتوحات والعمران، حيث وصلت الجيوش الأموية إلى الأندلس والسند، وبُني في عهده المسجد الأموي في دمشق، وتم توسيع المسجد النبوي في المدينة والمسجد الأقصى في القدس.
الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي: إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس
لعل الإنجاز الأبرز الذي لا يمكن إنكاره للدولة الأموية هو الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية الكبرى. فبعد أن توقفت الفتوحات تقريباً خلال فترة الفتنة الكبرى، انطلقت الجيوش الأموية في كل الاتجاهات في حملات عسكرية منظمة وواسعة النطاق.
- في الغرب: استكمل عقبة بن نافع فتح شمال إفريقيا، ووصل إلى سواحل المحيط الأطلسي. ثم قاد طارق بن زياد وموسى بن نصير الجيوش لعبور المضيق الذي سيحمل اسم طارق، وفتحوا شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) في فترة قياسية، وواصلوا التوغل شمالاً حتى وصلوا إلى قلب فرنسا، قبل أن يتم إيقافهم في معركة بلاط الشهداء (تور) عام 732م.
- في الشرق: قاد القائد الشاب محمد بن القاسم الثقفي جيشاً إلى بلاد السند (باكستان حالياً) وفتحها. وفي آسيا الوسطى، تمكن قتيبة بن مسلم الباهلي من فتح بخارى وسمرقند وكاشغر، ووصل إلى أسوار الصين.
- في الشمال: استمرت الحملات العسكرية ضد الإمبراطورية البيزنطية، وتم حصار القسطنطينية أكثر من مرة، أشهرها الحصار الطويل في عهد سليمان بن عبد الملك.
هذه الفتوحات المذهلة حولت الدولة الأموية إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، تمتد من حدود فرنسا غرباً إلى حدود الصين شرقاً، وهي مساحة لم تبلغها أي إمبراطورية إسلامية أخرى في تاريخها.
تعريب الدواوين وسك العملة: بناء هوية الدولة
إلى جانب الفتوحات العسكرية، قام الأمويون، وخاصة عبد الملك بن مروان، بإصلاحات إدارية جوهرية هدفت إلى بناء هوية عربية إسلامية مستقلة للدولة. قبل عهده، كانت دواوين الدولة (سجلات الإدارة والضرائب) تُكتب باللغة اليونانية في الشام، والفهلوية (الفارسية القديمة) في العراق وفارس. أمر عبد الملك بتعريب هذه الدواوين، وجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للإدارة في جميع أنحاء الإمبراطورية. كان هذا القرار ثورة إدارية وثقافية، حيث ساهم في نشر اللغة العربية وترسيخها كلغة للعلم والحكم.
الإصلاح الثاني المهم كان سك أول عملة إسلامية خالصة. كانت الدولة الإسلامية قبل ذلك تستخدم الدنانير البيزنطية الذهبية والدراهم الساسانية الفضية. أمر عبد الملك بسك دنانير ودراهم جديدة تحمل شهادة التوحيد وآيات قرآنية بدلاً من صور الأباطرة. لم يكن هذا مجرد تغيير اقتصادي، بل كان إعلاناً عن استقلال الدولة الإسلامية وسيادتها الاقتصادية والرمزية في مواجهة الإمبراطوريتين العظيمتين، البيزنطية والساسانية.
عمر بن عبد العزيز: الخليفة الزاهد الذي جدد الأمل
في خضم المُلك الأموي الذي اتسم بالبذخ والقوة، ظهرت فترة حكم فريدة ومختلفة، هي فترة الخليفة الثامن عمر بن عبد العزيز (حكم 717-720م). رغم أن فترة حكمه كانت قصيرة (حوالي سنتين ونصف)، إلا أنها تركت أثراً عميقاً في التاريخ الإسلامي، حتى أن الكثير من المؤرخين يلقبونه بـ “خامس الخلفاء الراشدين”.
كان عمر بن عبد العزيز حفيداً للخليفة الراشد عمر بن الخطاب من جهة أمه. عندما تولى الخلافة، أحدث انقلاباً كاملاً في سياسة الحكم. تخلى عن كل مظاهر الترف والبذخ، وأعاد أموال بني أمية وهداياهم إلى بيت مال المسلمين، وعزل الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الناس، وأوقف سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي كان سنة أموية متبعة على المنابر. كما اهتم بنشر العلم وتدوين الحديث النبوي. كانت سياسته تهدف إلى تحقيق العدل والمساواة بين جميع رعايا الدولة، عرباً كانوا أم موالي. لقد كانت فترة حكمه بمثابة محاولة جادة للعودة إلى روح الخلافة الراشدة، وجددت الأمل في نفوس الناس بإمكانية تحقيق العدل.
بداية النهاية: عوامل ضعف وسقوط الدولة الأموية
على الرغم من قوتها واتساعها، كانت الدولة الأموية تحمل في داخلها بذور فنائها. بدأت عوامل الضعف تتراكم بعد وفاة الخليفة القوي هشام بن عبد الملك، لتؤدي في النهاية إلى سقوط الدولة الأموية السريع. من أهم هذه العوامل:
- الصراع داخل البيت الأموي: بعد هشام، انخرط الأمراء الأمويون في صراعات دموية على الحكم، مما أضعف هيبة الخلافة واستنزف قوة الدولة في حروب أهلية.
- تجدد العصبية القبلية: عادت الصراعات القديمة بين القبائل العربية (القيسية واليمانية) إلى الظهور بشكل عنيف، وكان الخلفاء ينحازون لطرف ضد آخر، مما مزق وحدة الجيش والإدارة.
- ظلم الموالي: استمر الأمويون في تفضيل العرب على المسلمين من غير العرب (الموالي)، وفرضوا عليهم ضرائب لم تكن مفروضة على العرب، مما خلق حالة من السخط الشديد، خاصة في الأقاليم الشرقية مثل خراسان.
- الدعوة العباسية السرية: استغلت الدولة العباسية كل هذه العوامل، وأدارت دعوتها السرية بذكاء ودهاء لعقود، مستقطبة الساخطين من الموالي والعلويين، حتى تمكنت في النهاية من إعلان الثورة التي قضت على الحكم الأموي.
في عام 750م، هُزم آخر الخلفاء الأمويين، مروان بن محمد، في معركة الزاب، وبدأ العباسيون مطاردة دموية لأمراء بني أمية، ليمحوا أي أثر لهم في المشرق الإسلامي.
إرث الأمويين: ماذا بقي من أول إمبراطورية إسلامية؟
انتهى حكم الدولة الأموية في المشرق، لكن إرثها لم ينتهِ. لقد تركوا بصمات واضحة في التاريخ الإسلامي. فعلى الصعيد السياسي، هم من أسسوا لدولة مركزية قوية، ونظم إدارية متطورة. وعلى الصعيد العسكري، يعود لهم الفضل في نشر الإسلام في مساحات شاسعة من العالم. أما على الصعيد الحضاري، فقد تركوا وراءهم كنوزاً معمارية لا تزال تثير الدهشة، مثل قبة الصخرة في القدس، والمسجد الأموي الكبير في دمشق، الذي يعتبر تحفة فنية خالدة.
والأهم من ذلك، أن سقوطهم في المشرق لم يكن النهاية المطلقة. فقد نجا أمير أموي شاب، هو عبد الرحمن بن معاوية، الملقب بـ “صقر قريش”، من المذبحة العباسية، وتمكن بعد رحلة هروب ملحمية من الوصول إلى الأندلس. هناك، استطاع أن يؤسس دولة أموية جديدة في قرطبة، والتي ستصبح لاحقاً منارة للحضارة في أوروبا لثلاثة قرون أخرى، لتستمر سيرة الأمويين في غرب العالم الإسلامي بعد أن انقطعت في شرقه.
خاتمة: دمشق… عاصمة المجد الأول
عندما نتأمل تاريخ الدولة الأموية، نرى قصة مليئة بالتناقضات: القوة العسكرية الهائلة إلى جانب الصراعات الداخلية الدامية، والفتوحات الواسعة إلى جانب الظلم الاجتماعي، والعمران الفخم إلى جانب البعد عن بساطة الإسلام الأول. لقد كانت تجربة حكم بشرية بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات. ورغم كل الانتقادات التي يمكن أن توجه إليها، تظل الدولة الأموية هي التي بنت أول إمبراطورية إسلامية حقيقية، ورسمت حدود العالم الإسلامي التي لا يزال معظمها قائماً حتى اليوم، وجعلت من دمشق عاصمة للمجد والقوة، في فصل لا يمكن تجاهله من فصول التاريخ الإسلامي الطويل.
المصادر والمراجع
- تاريخ خليفة بن خياط – خليفة بن خياط: من أقدم كتب التاريخ الإسلامي التي وصلتنا، ويقدم روايات معاصرة ومباشرة عن الفترة الأموية.
- الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار – علي محمد الصلابي: دراسة حديثة شاملة تتناول تاريخ الدولة الأموية من منظور تحليلي، مع التركيز على عوامل القوة والضعف.
- تاريخ الدولة الأموية – محمد الخضري بك: كتاب كلاسيكي مبسط يقدم سرداً سلساً وواضحاً لأحداث العصر الأموي، ويعتبر مدخلاً جيداً للمبتدئين.
