مقدمة: على أنقاض إمبراطورية ولدت دعوة غيرت التاريخ
في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي (السادس الهجري)، كان المغرب الإسلامي والأندلس تحت حكم دولة المرابطين، الإمبراطورية التي وحدت المنطقة بقوة السلاح والعقيدة السنية المالكية الصارمة. لكن في قلب هذه الإمبراطورية، كانت بذور التغيير قد بدأت تنبت. ضعف سياسي، ترف أدى إلى ترهل عسكري، وانحرافات عقدية من وجهة نظر البعض، كلها عوامل شكلت تربة خصبة لظهور حركة دينية ثورية ستقتلع المرابطين من جذورهم وتبني على أنقاضهم إحدى أقوى الإمبراطوريات في تاريخ الإسلام. هذه هي قصة نشأة دولة الموحدين، قصة تمزج بين الحماسة الدينية، العبقرية السياسية، والطموح العسكري الذي لا يعرف حدودًا.
إن فهم نشأة دولة الموحدين ليس مجرد سرد لأحداث تاريخية، بل هو غوص في عمق التحولات الفكرية والاجتماعية التي عصفت بالغرب الإسلامي. تبدأ القصة برجل واحد، شخصية كاريزمية غامضة تُدعى محمد بن تومرت، الذي أعلن نفسه “المهدي المنتظر” وأطلق دعوة إصلاحية جذرية قائمة على التوحيد المطلق.
من كهوف جبال الأطلس، انطلقت هذه الدعوة لتجذب آلاف الأتباع من قبائل مصمودة الأمازيغية، وتتحول بسرعة من حركة دينية إلى جيش عقائدي منظم. هذا التحول هو جوهر قصة الصعود المذهلة التي سنتتبعها.
في هذا المقال المفصل، سنتتبع خطوة بخطوة مسار هذه الحركة، منذ رحلة ابن تومرت العلمية، مرورًا بإعلانه دعوته في تينمل، وصولًا إلى اللحظة الحاسمة التي شهدت سقوط دولة المرابطين على يد خليفته عبد المؤمن بن علي. هذا هو تاريخ الدولة الموحدية في فصله الأول والأكثر دراماتيكية.
محتويات المقال:
الفصل الأول: عالم على حافة التغيير (أحوال دولة المرابطين)
لفهم أسباب نشأة دولة الموحدين، يجب أولاً أن نفهم السياق الذي ولدت فيه. كانت دولة المرابطين في أواخر عهدها تعاني من مجموعة من الأزمات العميقة التي مهدت الطريق لانهيارها.
1. الضعف السياسي والترهل العسكري:
بعد وفاة القائد المؤسس يوسف بن تاشفين، بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة تحت قيادة ابنه علي بن يوسف. انغمس الحكام في حياة الترف والبذخ في قصور مراكش، وفقدوا تلك الصلابة والخشونة البدوية التي ميزت الجيل الأول من المرابطين. هذا الترهل انعكس على الجيش، الذي أصبح أقل انضباطًا وفعالية، وبدأ يعتمد بشكل متزايد على المرتزقة الأجانب بدلاً من المقاتلين الملثمين من قبائل صنهاجة الصحراوية.
2. التحديات في الأندلس:
في الشمال، كانت جبهة الأندلس تستنزف موارد المرابطين. بدأت ممالك قشتالة وأراغون المسيحية في استعادة قوتها وشن هجمات متتالية (حركة الاسترداد). ورغم الانتصارات الأولية للمرابطين، إلا أنهم فشلوا في وقف الزحف المسيحي بشكل دائم. الهزيمة الكبيرة في معركة “كتندة” عام 1120م كانت ضربة قاصمة لسمعة الجيش المرابطي الذي لا يقهر.
3. الجمود الفكري والرفض الشعبي:
فرض فقهاء المالكية المرابطون رؤية متشددة وجامدة للدين، تركز على الفروع وتهمل الأصول، وتقف موقفًا عدائيًا من علم الكلام والفلسفة والتصوف. قاموا بحرق كتب الإمام الغزالي، مثل “إحياء علوم الدين”، مما أثار غضب واستياء قطاعات واسعة من العلماء وعامة الناس الذين رأوا في هذا الفعل قمعًا للفكر. هذا الجمود خلق فراغًا روحيًا وفكريًا كانت الدعوة الموحدية الجديدة على أتم الاستعداد لملئه. كان الناس متعطشين لخطاب ديني جديد يعيد إحياء “الأصول” ويركز على جوهر العقيدة.
الفصل الثاني: محمد بن تومرت (الداعية الذي أصبح المهدي)
في قلب هذه الظروف، ظهرت الشخصية المحورية التي أسست للحركة الموحدية: محمد بن تومرت المهدي.
1. النشأة والرحلة في طلب العلم:
ولد محمد بن تومرت حوالي عام 1080م في قرية إيجلي أن وارغن بجبال الأطلس الصغير، وهو ينتمي إلى قبيلة هرغة، إحدى بطون قبائل مصمودة الأمازيغية الكبرى. أظهر شغفًا كبيرًا بالعلم منذ صغره، مما دفعه للقيام برحلة علمية طويلة وشاقة إلى الشرق الإسلامي.
- قرطبة: كانت محطته الأولى، حيث درس على يد علمائها.
- المشرق: سافر إلى الإسكندرية، مكة، وبغداد. في بغداد، يُعتقد أنه تأثر بشدة بأفكار الإمام الغزالي الإصلاحية، وبآراء المدرسة الأشعرية في العقيدة، التي كانت على خلاف تام مع الفقه المالكي الحرفي السائد في المغرب. هذه الرحلة لم تكن مجرد رحلة لطلب العلم، بل كانت رحلة لتكوين مشروع فكري وسياسي متكامل.
إقرأ أيضًا: حضارة الأندلس: أسرار ذهبية لم تُكشف من قبل في التاريخ الإسلامي
2. بلورة العقيدة الموحدية:
عاد ابن تومرت إلى المغرب حوالي عام 1117م، مسلحًا بعقيدة جديدة وخطاب إصلاحي ناري. كانت دعوته، التي سماها “دعوة الموحدين”، تقوم على عدة أسس:
- التوحيد المطلق: ركز على تنزيه الله عن كل صفات التجسيم والتشبيه التي كان يتهم بها المرابطين. من هنا جاء اسم “الموحدين”.
- العصمة والمهدوية: النقطة الأكثر جذرية في دعوته كانت إعلانه لنفسه بأنه “المهدي المنتظر” و”الإمام المعصوم” الذي بشر به النبي، والذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جورًا. هذه الفكرة منحته سلطة روحية وسياسية مطلقة على أتباعه، وجعلت طاعته واجبًا دينيًا والخروج عليه كفرًا.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: استخدم هذا المبدأ الإسلامي كأداة سياسية لتحدي سلطة المرابطين. كان هو وأتباعه يجوبون الأسواق ويتدخلون بعنف أحيانًا لتغيير ما يعتبرونه “منكرات”، مثل شرب الخمر، واستخدام الآلات الموسيقية، وخروج النساء سافرات، مما أدخلهم في صدام مباشر مع السلطة.
3. الصدام مع المرابطين واللجوء إلى الجبال:
بدأ ابن تومرت دعوته العلنية في مدن مثل مراكش وفاس، حيث دخل في مناظرات حادة مع فقهاء المرابطين. جرأته وخطابه القوي جذبا إليه بعض الأتباع، ولكنهما أثارا حفيظة السلطان علي بن يوسف الذي أمر بالقبض عليه. تمكن ابن تومرت من الفرار ولجأ إلى موطنه الأصلي في جبال الأطلس، وهناك وجد الملاذ الآمن والبيئة المثالية لنشر دعوته بين قبائل مصمودة التي كانت تشعر بالتهميش من قبل المرابطين الصنهاجيين.
الفصل الثالث: تأسيس الدولة في تينمل (1121-1130م)
لم تكن نشأة دولة الموحدين مجرد فكرة، بل كانت مشروعًا منظمًا تم تأسيسه بعناية فائقة في معقل جبلي حصين.
1. اختيار تينمل كعاصمة:
في عام 1121م، استقر محمد بن تومرت المهدي وأتباعه في قرية “تينمل” الواقعة في وادٍ ضيق وعميق في قلب جبال الأطلس الكبير. كان هذا الاختيار عبقريًا من الناحية الاستراتيجية، فتينمل كانت حصنًا طبيعيًا يصعب على جيوش المرابطين النظامية الوصول إليه واقتحامه. أصبحت تينمل عاصمة روحية وعسكرية للحركة الجديدة.
2. بناء الهيكل التنظيمي للدولة:
لم يكتفِ ابن تومرت بالوعظ، بل قام ببناء هيكل تنظيمي هرمي دقيق للدولة الوليدة، وهو ما ضمن استمراريتها وقوتها:
- أهل الجماعة (مجلس العشرة): هم أقرب المقربين والمستشارين لابن تومرت، وعلى رأسهم عبد المؤمن بن علي، الذي كان بمثابة اليد اليمنى للمهدي.
- أهل الخمسين: مجلس أوسع يضم قادة وشيوخ القبائل الموالية.
- الطلبة والحفاظ: هم الجيش العقائدي للحركة، الذين تلقوا تعاليم ابن تومرت وحفظوا كتابه “أعز ما يطلب”.
- نظام “التمييز”: قام ابن تومرت بعملية “تطهير” دموية داخل صفوفه، حيث أمر بقتل الآلاف من أتباعه بحجة “تمييز” المنافقين عن المؤمنين الصادقين. ورغم قسوتها، إلا أن هذه العملية ضمنت ولاءً مطلقًا وبنت جيشًا لا يعرف إلا الطاعة العمياء.
3. المواجهات الأولى وبداية سقوط دولة المرابطين:
من معقلهم في تينمل، بدأ الموحدون في شن غارات منظمة على الحاميات والقوافل المرابطية، وتوسيع نفوذهم تدريجيًا في جبال الأطلس. كانت هذه المعارك بمثابة تدريب عملي لجيش الموحدين العقائدي. بلغت المواجهة ذروتها في عام 1130م عندما قرر ابن تومرت أن الوقت قد حان لضرب قلب الدولة المرابطية. قاد جيشًا ضخمًا وحاصر العاصمة مراكش. ورغم أن الحصار انتهى بهزيمة قاسية للموحدين في “معركة البحيرة”، إلا أنه أظهر للعالم أن قوة جديدة وخطيرة قد ولدت. بعد هذه الهزيمة بفترة وجيزة، توفي محمد بن تومرت المهدي، لكنه ترك وراءه حركة منظمة، وجيشًا قويًا، وخليفة عبقريًا سيحمل الراية ويكمل المهمة.
الفصل الرابع: عبد المؤمن بن علي (البنّاء الذي أقام الإمبراطورية)
إذا كان محمد بن تومرت هو المنظّر والمؤسس الروحي، فإن عبد المؤمن بن علي الكومي هو القائد العسكري والسياسي الفذ الذي حول الدعوة إلى إمبراطورية. إن تاريخ الدولة الموحدية الحقيقي كقوة إقليمية يبدأ مع توليه زمام الأمور.
1. شخصية غامضة وطموح بلا حدود:
ينحدر عبد المؤمن من قبيلة كومية الزناتية بالقرب من تلمسان، ولم يكن من قبائل مصمودة التي شكلت عصب الحركة. التقى بابن تومرت أثناء رحلة الأخير، وأصبح تلميذه النجيب ورفيقه الأقرب. تميز بذكاء حاد، وقدرة تنظيمية فائقة، ومهارة عسكرية استثنائية. بعد وفاة ابن تومرت، تمكن عبد المؤمن من إخفاء خبر الوفاة لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، وهي فترة حاسمة استخدمها لترتيب صفوف الموحدين، وتوطيد سلطته، والتخلص من منافسيه المحتملين داخل “مجلس العشرة”.
2. تغيير الاستراتيجية: من حرب العصابات إلى الفتح المنظم:
أدرك عبد المؤمن أن الهجوم المباشر على مراكش كان خطأً استراتيجيًا. بدلاً من ذلك، اتبع استراتيجية “القضم التدريجي” التي تهدف إلى تطويق وعزل العاصمة المرابطية. بدأ بحملات عسكرية منظمة استمرت لسنوات (1132-1146م)، سيطر خلالها على جبال الأطلس والريف، ثم تقدم شرقًا للسيطرة على مدن المغرب الأوسط (الجزائر الحالية) مثل تلمسان ووهران، قاطعًا بذلك خطوط الإمداد بين المرابطين في المغرب وإفريقية.
3. السقوط المدوي لدولة المرابطين (1147م):
بعد أن أحكم سيطرته على كل المناطق المحيطة، زحف عبد المؤمن بجيوشه الجرارة نحو معاقل المرابطين الأخيرة.
- سقوط فاس (1146م): بعد حصار طويل، سقطت العاصمة العلمية للمرابطين، فاس، في أيدي الموحدين، وكانت مذبحة عظيمة.
- سقوط مراكش (1147م): كانت هذه هي الضربة القاضية. حاصر عبد المؤمن العاصمة مراكش حصارًا شديدًا استمر لعدة أشهر. عانى أهلها من الجوع والمرض، وفي النهاية، تمكن الموحدون من اقتحام المدينة. قُتل آخر أمراء المرابطين، إسحاق بن علي، وانتهت بذلك دولة المرابطين في المغرب بشكل دموي ومأساوي. شكل هذا الحدث الإعلان الرسمي عن قيام دولة الموحدين كقوة مهيمنة في الغرب الإسلامي. إن لحظة سقوط دولة المرابطين هي نفسها لحظة الميلاد الفعلي للإمبراطورية الموحدية.
الفصل الخامس: ترسيخ أركان الدولة وتوحيد الغرب الإسلامي
لم يكتفِ عبد المؤمن بإسقاط المرابطين، بل عمل على بناء دولة قوية وموحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى حدود مصر.
1. توحيد المغرب الكبير:
بعد السيطرة على المغرب الأقصى، واصل عبد المؤمن زحفه شرقًا. سيطر على إفريقية (تونس الحالية) وطرد منها النورمان الذين كانوا قد احتلوها، وبذلك وحّد المغرب الإسلامي بأكمله (من ليبيا إلى المغرب) تحت راية واحدة لأول مرة في التاريخ منذ الفتح الإسلامي الأول.
2. العبور إلى الأندلس:
كانت الأندلس بعد ضعف المرابطين قد دخلت في فترة “ملوك الطوائف الثانية”، حيث استقل كل أمير بمدينته. استغل عبد المؤمن هذه الفوضى وأرسل جيوشه إلى الأندلس ابتداءً من عام 1146م. تدريجيًا، سيطر الموحدون على المدن الكبرى مثل إشبيلية وقرطبة، وأعادوا توحيد الجزء المسلم من الأندلس تحت سلطتهم، وأصبحوا خط الدفاع الأول ضد الممالك المسيحية في الشمال.
3. بناء المؤسسات:
عمل عبد المؤمن على تحويل الحركة الثورية إلى دولة مستقرة.
- الجيش: أسس جيشًا نظاميًا قويًا، وأنشأ أسطولاً بحريًا ضخمًا سيطر به على غرب البحر المتوسط.
- الإدارة: اعتمد على تنظيم إداري دقيق، وأجرى مسحًا للأراضي لتنظيم الضرائب.
- العمران: بدأ في مشاريع عمرانية ضخمة، مثل بناء مسجد الكتبية في مراكش (الذي أكمله خلفاؤه)، ومسجد تينمل تخليدًا لذكرى المهدي بن تومرت.
خاتمة: إرث مزدوج من التوحيد والتطرف
وهكذا، اكتملت فصول نشأة دولة الموحدين. ما بدأ كدعوة إصلاحية دينية في جبال الأطلس على يد محمد بن تومرت المهدي، تحول في غضون ثلاثة عقود إلى إمبراطورية مترامية الأطراف على يد القائد الفذ عبد المؤمن بن علي. لقد نجح الموحدون في تحقيق ما فشل فيه المرابطون: توحيد المغرب الكبير بأكمله، وإعادة فرض سلطة مركزية قوية في الأندلس، وبناء قوة عسكرية ضاربة أرهبت خصومهم في الشمال والشرق.
لكن هذا النجاح كان له وجه آخر. قامت الدولة على أساس عقيدة صارمة لا تقبل المخالف، وفرضت رؤيتها بالقوة، ومارست العنف الشديد ضد خصومها. إن تاريخ الدولة الموحدية يحمل في طياته هذا التناقض: إرث من التوحيد السياسي والعمراني والحضاري العظيم، وفي نفس الوقت، إرث من التشدد الفكري الذي سيؤدي في النهاية إلى ظهور ردود فعل معاكسة تساهم في سقوط الدولة لاحقًا. قصة النشأة هذه تظل شاهدًا على أن الأفكار، عندما تمتزج بالطموح السياسي والتنظيم العسكري، يمكنها أن تغير مجرى التاريخ.
المراجع والمصادر الخارجية
لصياغة هذا المقال التاريخي، تم الاعتماد على مجموعة من المصادر الأكاديمية والمراجع التاريخية المعتبرة:
- ابن خلدون، “ديوان المبتدأ والخبر” (تاريخ ابن خلدون):
- البيذق، “أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين”:
- ابن القطان المراكشي، “نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان”:
- عبد الله العروي، “مجمل تاريخ المغرب”:
- رابط للكتاب على موقع GoodReads (للاطلاع على معلومات النشر)
- (ملاحظة: غالبًا ما تكون الكتب الحديثة محمية بحقوق النشر، وقد لا تتوفر نسخ رقمية مجانية كاملة، لكن الرابط يوفر معلومات وافية حول الكتاب).
- Amira K. Bennison, “The Almoravid and Almohad Empires”:
- Pascal Buresi & Hicham El Aallaoui, “Governing the Empire: Provincial Administration in the Almohad Caliphate”:
(ملاحظة: غالبًا ما تكون الكتب الحديثة محمية بحقوق النشر، وقد لا تتوفر نسخ رقمية مجانية كاملة، لكن الرابط يوفر معلومات وافية حول الكتاب).
إقرأ أيضًا:
