مقدمة: رحلة الحاج والمعتمر بين الذكر والدعاء
أيها الحاج الكريم، أيها المعتمر الفاضل، ها أنت ذا تقف في أطهر بقاع الأرض، تستعد لأداء شعيرة من أعظم شعائر دينك: السعي بين الصفا والمروة. هذه الخطوات التي ستخطوها ليست مجرد مسافة تُقطع، بل هي رحلة إيمانية عميقة، تقتفي فيها أثر اليقين والتوكل، وتستحضر قصة أمنا هاجر عليها السلام. وفي هذه اللحظات الروحانية، يلهج لسانك بالدعاء، وترتفع يداك بالرجاء، طامعًا في رحمة الله ومغفرته. ولأن العبادة لا تكتمل إلا بالاتباع، فإن أول ما يجب أن تبحث عنه هو ادعية السعي بين الصفا والمروة كما وردت عن نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون عبادتك على هدي وبصيرة.
إن السعي موطن عظيم من مواطن إجابة الدعاء، ولكن الكثيرين يقعون في حيرة، ويتساءلون: ما هو دعاء السعي للحاج؟ وما هي أدعية العمرة الصحيحة التي تقال في هذا الموضع؟ وقد يجدون كتيبات تخصص لكل شوط دعاءً، وهو أمر لم يثبت في السنة. لذلك، يأتي هذا الدليل العملي ليأخذ بيدك، ويوضح لك بالدليل الصحيح ماذا يقول المعتمر في السعي، خطوة بخطوة، لتكون عبادتك على بصيرة، ولكي تستثمر كل لحظة في هذا المسعى المبارك في الذكر والدعاء المشروع الذي هو أقرب للقبول.
محتويات المقال:
قبل أن تبدأ السعي: استحضار النية وفهم الحكمة
يا من لبيت نداء ربك، قبل أن تبدأ أولى خطواتك نحو الصفا، توقف لحظة. استجمع قلبك، وجدد نيتك بأن هذا السعي هو عبادة خالصة لوجه الله تعالى، اتباعًا لسنة نبيه ﷺ، واقتداءً بأمنا هاجر. إن فهم حكمة هذه الشعيرة يضفي على عملك روحًا وخشوعًا:
- تذكر اليقين: أنت تسعى في نفس المكان الذي سعت فيه هاجر بيقين لا يتزعزع في الله عندما كانت وحيدة في وادٍ مقفر. فليكن سعيك أنت أيضًا سعي المتوكل على الله، الموقن بإجابته. إن فهم ادعية السعي بين الصفا والمروة وتطبيقها هو مفتاح الخشوع.
- تذكر التذلل: أنت الآن واحد من ملايين الحجاج والمعتمرين، متجرد من كل ألقاب الدنيا ومناصبها. الكل يسعى، والكل يدعو، والكل يرجو رحمة ربه. استشعر هذا التذلل والانكسار بين يدي الله، فهو مفتاح القبول.
- تذكر الآخرة: هذا السعي في الدنيا يذكرك بالسعي الأكبر يوم القيامة. فاجعل خطواتك شاهدة لك، واجعل دعاءك زادًا لآخرتك.
الدليل التطبيقي: ادعية السعي بين الصفا والمروة للحاج والمعتمر
سنقسم الآن رحلة السعي إلى محطاتها المختلفة، ونوضح بالتفصيل ما ثبت من أدعية وأذكار في كل محطة، ليكون دليلك العملي الذي لا يفارقك.
المحطة الأولى: عند جبل الصفا (بداية الشوط الأول)
هذه هي نقطة الانطلاق، وفيها سنن قولية وفعلية مهمة تضبط لك إيقاع السعي كله. اتبع الخطوات التالية:
- اقرأ الآية: عندما تقترب من الصفا، وقبل أن تصعد عليه، اقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158].
- أعلن الاتباع: بعد قراءة الآية مباشرة، قل: “أبدأ بما بدأ الله به”. هذا القول هو إعلان منك بأنك تتبع أمر الله وشرعه.
- اصعد واستقبل القبلة: اصعد على الصفا حتى ترى الكعبة (إن أمكن)، ثم استقبلها بوجهك.
- ارفع يديك للذكر والدعاء: ارفع يديك كهيئة من يدعو، ثم ابدأ بالذكر الأعظم في هذا الموطن، وهو من أهم ادعية السعي بين الصفا والمروة:
- قل: “اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ”.
- ثم قل: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ”.
- ادعُ بما شئت: بعد هذا الذكر، ادعُ بحرية تامة. اطلب من الله ما تحتاجه من أمور دينك ودنياك. هذا هو وقتك الخاص مع ربك.
- كرر الذكر والدعاء: السنة الكاملة هي أن تكرر الذكر السابق مرة ثانية، ثم تدعو مرة أخرى، ثم تكرر الذكر للمرة الثالثة. (المجموع: 3 مرات ذكر، ومرتان دعاء بينها).
- انطلق نحو المروة: بعد المرة الثالثة من الذكر، انزل من الصفا وابدأ شوطك الأول متجهًا إلى المروة.
المحطة الثانية: أثناء المشي بين الصفا والمروة
أيها الحاج والمعتمر، هذا هو وقتك الثمين، فلا تضيعه في كلام لا فائدة منه. المسافة بين الجبلين هي ميدانك الفسيح للدعاء والذكر. وهنا نجيب على السؤال المحوري: ماذا يقول المعتمر في السعي؟
الحقيقة هي أنه لا يوجد دعاء محدد لكل شوط. لم يثبت عن النبي ﷺ أنه خصص الشوط الأول بدعاء، والثاني بآخر، وهكذا. هذا من رحمة الله وتيسيره، لتسأل ربك حاجتك أنت، لا حاجة غيرك.
إذًا، ماذا تفعل؟
- افتح قلبك بالدعاء: هذا هو دعاء السعي للحاج الحقيقي. ادعُ بما يجول في خاطرك. ادعُ لنفسك بالهداية والمغفرة، ادعُ لوالديك بالرحمة، ادعُ لأبنائك بالصلاح، ادعُ للمسلمين بالنصر والتمكين. ادعُ بالرزق الحلال، والشفاء من الأمراض، وتفريج الكروب. لا تترك حاجة إلا وسألتها ربك.
- أكثر من ذكر الله: اجعل لسانك رطبًا بذكر الله. سبّح، هلّل، كبّر، استغفر. ردد “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”، و “لا حول ولا قوة إلا بالله”.
- اقرأ القرآن: إن كنت حافظًا للقرآن، فالسعي فرصة عظيمة لمراجعة محفوظك وتدبر آيات الله.
هذه هي أدعية العمرة الصحيحة وجوهر ادعية السعي بين الصفا والمروة: كل دعاء صادق نابع من قلبك، وكل ذكر يلهج به لسانك.
اقرأ أيضًا: دليل ادعية السعي بين الصفا والمروة من السنة النبوية الصحيحة
المحطة الثالثة: بين الميلين الأخضرين (موضع الهرولة)
أثناء سيرك من الصفا إلى المروة (والعكس)، ستلاحظ وجود علامتين باللون الأخضر الفاقع على جانبي المسعى. هذه المنطقة هي التي كانت في الماضي بطن الوادي، ويُسن للرجال (دون النساء) أن يهرولوا فيها، أي يسرعوا في المشي مع تقارب الخطى.
هل هناك دعاء خاص بهذه المنطقة؟ لم يثبت دعاء مرفوع للنبي ﷺ في هذا الموضع، ولكن ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، المعروف بشدة اتباعه للسنة، أنه كان يقول عندما يسعى في هذه المنطقة:
“رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ”.
وهذا دعاء عظيم ومناسب للمقام. فمن الجميل أن يقتدي الحاج والمعتمر بفعل هذا الصحابي الجليل ويردد هذا الدعاء، فهو يجمع بين طلب المغفرة والرحمة والثناء على الله بعزته وكرمه. وإن دعا بغيره، فلا حرج عليه.
المحطة الرابعة: عند جبل المروة (نهاية كل شوط فردي)
عندما تصل إلى المروة، تكون قد أتممت شوطًا. وعندها تفعل تمامًا كما فعلت على الصفا، مع استثناءات بسيطة.
الخطوات عند المروة:
- اصعد واستقبل القبلة: اصعد على المروة، واستقبل الكعبة بوجهك.
- ارفع يديك للذكر والدعاء: ارفع يديك وقل نفس الذكر النبوي الذي قلته على الصفا:
- “اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ”.
- “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ…” إلى آخره.
- كرر الذكر والدعاء: كما فعلت على الصفا، كرر الذكر ثلاث مرات، وادعُ مرتين بينها بما شئت من خير.
- انطلق نحو الصفا: بعد المرة الثالثة من الذكر، انزل من المروة وابدأ شوطك التالي متجهًا إلى الصفا.
ملاحظات مهمة للحاج والمعتمر:
- عند المروة، لا تقرأ آية ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ…﴾ ولا تقل “أبدأ بما بدأ الله به”. فهذه خاصة ببداية السعي فقط.
- تكرر هذه الأفعال (الذكر والدعاء) في كل مرة تصل فيها إلى الصفا أو المروة، فهي تمثل الركن العملي في تطبيق ادعية السعي بين الصفا والمروة طوال الأشواط السبعة.
- ينتهي الشوط السابع عند المروة، وبعد الذكر والدعاء الأخير، لا تعود إلى الصفا، بل تخرج من المسعى وتذهب لتقصير شعرك (في العمرة) أو تتحلل التحلل الأصغر (في حج التمتع).
تنبيهات وأخطاء يجب أن يحذر منها الحاج والمعتمر
لأنك حريص على كمال عبادتك، وجب التنبيه على بعض الأخطاء التي قد يقع فيها البعض عن جهل، لتتجنبها:
- لا تتبع الأدعية المخصصة لكل شوط: تجاهل الكتيبات غير الموثوقة التي تخصص دعاءً لكل شوط. ادعية السعي بين الصفا والمروة الحقيقية هي ما ينبع من قلبك أنت.
- تجنب الدعاء الجماعي الصاخب: لا تشارك في مجموعات تردد الدعاء بصوت عالٍ خلف شخص واحد. هذا يشوش على الآخرين وهو خلاف السنة. ادعُ لنفسك بصوت خفيض.
- لا تتمسح بالجبلين: لم يثبت عن النبي ﷺ أنه تمسح بالصفا أو المروة أو قبّلهما. هذه من الأفعال المحدثة التي قد تصل إلى الغلو.
- لا ترفع صوتك بالدعاء أثناء المشي: ادعُ ربك تضرعًا وخفية. الجهر بالدعاء أثناء المشي قد يؤذي إخوانك ويفقدهم خشوعهم.
أسئلة شائعة للحاج والمعتمر حول أدعية السعي
خلال أداء هذه الشعيرة العظيمة، قد تطرأ على ذهن الحاج أو المعتمر بعض الأسئلة العملية التي تحتاج إلى إجابة واضحة ومباشرة. إليك أهم هذه الأسئلة وإجاباتها المبسطة:
1. هل يجب أن أختم القرآن في السعي؟
لا، ليس مطلوبًا منك ختم القرآن. قراءة القرآن في السعي هي من أفضل الأعمال، ولكنها ليست واجبة. يمكنك قراءة ما تيسر لك، أو الانشغال بالدعاء والذكر، فالأمر فيه سعة. الأهم هو حضور القلب.
2. نسيت أن أقول الذكر على الصفا أو المروة، فهل سعيي صحيح؟
نعم، سعيك صحيح ولا شيء عليك. الأذكار والأدعية التي تقال على الصفا والمروة هي من السنن المستحبة التي يثاب فاعلها ولا يبطل السعي بتركها. لكنك بذلك قد فوت على نفسك أجرًا عظيمًا. إذا تذكرت وأنت قريب، يمكنك أن تعود لتقول الذكر، أما إذا ابتعدت كثيرًا، فأكمل سعيك ولا حرج عليك.
3. هل يجوز لي قراءة الدعاء من ورقة أو من الجوال؟
نعم، يجوز ذلك، خاصة إذا كنت لا تحفظ ادعية السعي بين الصفا والمروة المأثورة. لكن الأفضل دائمًا أن تدعو بما يحضر في قلبك وبما تحفظ، لأنه أدعى للخشوع. إذا احتجت للقراءة من الجوال، فاحرص على أن يكون ذلك للذكر النبوي الثابت عند الصفا والمروة، ثم اترك الجوال وانشغل بالدعاء من قلبك أثناء المشي.
4. أنا امرأة، هل أهرول بين الميلين الأخضرين؟
لا، الهرولة (إسراع المشي) بين الميلين الأخضرين هي سنة خاصة بالرجال فقط. أما النساء فيمشين مشيًا عاديًا في جميع أجزاء المسعى، وذلك من باب الستر والحياء الذي جاء به الإسلام.
كيف تحافظ على الخشوع والتركيز أثناء السعي؟
في خضم الزحام وضجيج الحشود، قد يجد الحاج أو المعتمر صعوبة في الحفاظ على تركيزه وخشوعه. إليك بعض النصائح العملية التي تعينك على استثمار كل لحظة في هذه العبادة:
- استعد نفسيًا قبل البدء: قبل أن تدخل المسعى، اجلس لدقائق، استغفر ربك، واقرأ عن فضل السعي وحكمته. هذا التهيئة النفسية تجعل قلبك أكثر حضورًا.
- قلل من المشتتات: اجعل هاتفك في وضع صامت، وتجنب الأحاديث الجانبية مع رفقائك قدر الإمكان. اتفق معهم على أن هذا الوقت هو للعبادة الفردية والمناجاة الخاصة.
- اربط سعيك بالقصة: في كل شوط، استحضر قصة هاجر عليها السلام. تخيل يقينها، وتعبها، ثم فرحتها بماء زمزم. هذا الربط الذهني يحول السعي من عمل جسدي إلى تجربة عاطفية وروحانية عميقة.
- نوّع بين العبادات: لا تجعل وقتك كله دعاءً أو كله ذكرًا. نوّع بين الدعاء، والتسبيح، والتهليل، والاستغفار، وقراءة القرآن. هذا التنويع يطرد الملل ويبقي القلب متيقظًا.
خلاصة الدليل للحاج والمعتمر
أيها الحاج، أيها المعتمر، رحلتك في السعي هي سبعة أشواط من النور والبركة. اجعلها رحلة مليئة بالذكر والدعاء الصادق، واحرص على تطبيق ادعية السعي بين الصفا والمروة كما وردت في السنة. ابدأ سعيك بالذكر النبوي العظيم على الصفا، واختم كل شوط على الصفا أو المروة بنفس الذكر والدعاء. وما بين ذلك، اجعله وقتًا لمناجاة ربك، وسؤاله من فضله العظيم. تذكر أن دعاء السعي للحاج ليس كلمات تردد، بل هو حديث قلب صادق مع رب كريم.
المراجع والمصادر
لضمان دقة المعلومات الشرعية في هذا الدليل، تم الاعتماد على المصادر الموثوقة التالية:
- صحيح مسلم: حديث جابر بن عبد الله الطويل في صفة حجة النبي ﷺ.
- سنن أبي داود: باب السعي على القدمين.
- مصنف ابن أبي شيبة: أثر عبد الله بن عمر في الدعاء ببطن المسيل.
- شرح صحيح مسلم للنووي: شرح حديث جابر وتفصيل صفة السعي.
- مجموع فتاوى ابن باز: فتاوى متعلقة بما يقال في السعي بين الصفا والمروة.
