مقدمة: الاتباع جوهر العبادة المقبولة
في قلب مكة المكرمة، وبين جنبات المسجد الحرام، تقف شعيرة عظيمة تضرب بجذورها في عمق التاريخ الإيماني، إنها شعيرة “السعي بين الصفا والمروة”. هذه العبادة ليست مجرد حركة جسدية بين جبلين، بل هي رحلة روحية تقتفي أثر اليقين والتوكل، وتستحضر قصة أمنا هاجر عليها السلام في أسمى صورها. وفي خضم هذه الرحلة الإيمانية، يلهج لسان الحاج والمعتمر بالدعاء والذكر، طمعًا في مغفرة الله ورضوانه. لكن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرحه كل مسلم هو: ما هي ادعية السعي بين الصفا والمروة التي ثبتت بالفعل عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن العبادة مبناها على التوقيف والاتباع، والحرص على تحري السنة هو ما يضمن قبول العمل ويرفع درجته عند الله.
الكثيرون يبحثون عن دعاء السعي الصحيح، ويتساءلون ماذا يقال عند الصفا والمروة، وقد تنتشر بينهم كتيبات وأوراق تخصص لكل شوط دعاءً محدداً، وهو أمر لا أصل له في السنة النبوية المطهرة. لذلك، يأتي هذا الدليل المفصل ليكون منارة تهتدي بها، حيث سنستعرض بشكل دقيق وموثق، وبالاعتماد على ما صح في كتب الحديث المعتبرة، الهدي النبوي الكامل في هذه الشعيرة. سنتعلم معًا أذكار السعي في العمرة والحج كما أداها رسول الله ﷺ، لنعبد الله على بصيرة، ونحقق كمال الاتباع الذي هو أساس القبول.
محتويات المقال:
الحكمة والمشروعية: لماذا نسعى بين الصفا والمروة؟
قبل أن نخوض في تفاصيل ادعية السعي بين الصفا والمروة، من الضروري أن نتوقف لنتأمل في عمق هذه الشعيرة وحكمتها البالغة. ففهم المقاصد يورث القلب تعظيمًا للعبادة ويزيد من الخشوع فيها.
إحياء ذكرى التوكل واليقين
القصة الأصلية للسعي هي قصة السيدة هاجر، زوجة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام. عندما تركها بأمر من الله في وادٍ مقفر لا حياة فيه، ومعها رضيعها إسماعيل، ونفد منهما الماء والطعام، لم تجلس لتيأس. بل قامت بقلبٍ مفعم باليقين بالله، وبدأت بالأخذ بالأسباب المتاحة. انطلقت تسعى بين أقرب مرتفعين، جبلي الصفا والمروة، باحثة عن مغيث أو قافلة. صعدت على الصفا، ثم هرولت إلى المروة، وكررت ذلك سبع مرات في مشهد يجسد أروع معاني التوكل على الله مع بذل الجهد. فكانت المكافأة الإلهية العاجلة بتفجير نبع زمزم المبارك تحت قدمي وليدها. عندما نسعى اليوم، فإننا لا نحيي ذكراها فحسب، بل نرسخ في قلوبنا هذا الدرس العظيم: أن مع الأخذ بالأسباب، يبقى القلب معلقًا بمسبب الأسباب، وأن فرج الله قريب.
التجرد من الكبر والتذلل لله
السعي، وخاصة في جزء الهرولة بين الميلين الأخضرين، هو تمرين عملي على التجرد من مظاهر الدنيا والوجاهة. فالمرء، مهما كانت مكانته، يخلع رداء الكبر ويشارك الحشود في هذه الحركة التي تذكره بضعفه البشري وحاجته المطلقة إلى الله. إنه إعلان عملي بأن العزة والقوة لله وحده، وأننا جميعًا عبيد له، متساوون في هذه الشعيرة. هذا الشعور بالتذلل والانكسار هو من أعظم المقامات التي يحبها الله من عبده، وهو من أسباب إجابة الدعاء.
رمزية السعي في الحياة
يمكن النظر إلى السعي بين الصفا والمروة على أنه نموذج مصغر لرحلة الإنسان في الحياة. تبدأ الرحلة من “الصفا”، وهو يرمز إلى صفاء النية وإخلاص القصد لله في بداية كل عمل. وتنتهي الأشواط عند “المروة”، التي ترمز إلى المروءة وكمال العمل وإتمامه. وما بينهما هو “السعي” الدؤوب في مناكب الحياة، الذي يجب أن يكون مليئًا بالذكر والدعاء والعمل الصالح، سعيًا مستمرًا نحو تحقيق مرضاة الله تعالى والفوز بجنته.
الدليل العملي: ماذا يقال عند الصفا والمروة؟ (الهدي النبوي الكامل)
إن المرجع الأساسي والأشمل في هذا الباب هو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صفة حجة النبي ﷺ، الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. هذا الحديث هو دستور عملي للحاج والمعتمر، وفهم الجزء الخاص بالسعي منه يغني عن كل المصادر الأخرى.
إقرأ أيضًا: حضارة الأندلس: أسرار ذهبية لم تُكشف من قبل في التاريخ الإسلامي
الخطوات والأدعية عند الصفا (في بداية الشوط الأول)
عندما يقترب الحاج أو المعتمر من جبل الصفا ليبدأ سعيه، يُسن له أن يقوم بالخطوات التالية بالترتيب:
- قراءة الآية الكريمة: قبل أن يبدأ بالصعود، يقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158]. هذه القراءة تكون بصوت مسموع بشكل خفيف، وهي للتذكير بمشروعية هذه الشعيرة وأنها من معالم دين الله.
- قول “أبدأ بما بدأ الله به”: بعد قراءة الآية مباشرة، يقول: “أبدأ بما بدأ الله به”. وهذا إعلان صريح بالاتباع الكامل لأمر الله، الذي ذكر الصفا قبل المروة في كتابه الكريم، وفيه تأسٍ بفعل النبي ﷺ الذي قال ذلك.
- الصعود على الصفا واستقبال القبلة: يصعد على الصفا حتى يتمكن من رؤية الكعبة المشرفة (إن أمكن ذلك مع الزحام والبناء الحديث). ثم يستقبل القبلة بوجهه، ويرفع يديه كهيئة الداعي، ويبدأ بالذكر والدعاء.
- الذكر النبوي الثابت: هذا هو دعاء السعي الصحيح الذي ورد عن النبي ﷺ في هذا الموطن. يقول:
- “اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ”. (يكبر ثلاث مرات).
- ثم يقول: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ”.
- الدعاء وتكرار الذكر: بعد أن يقول هذا الذكر العظيم، ينزل يديه ويدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، بخشوع وتضرع. هذا هو الموضع الأول للدعاء. ثم يرفع يديه مرة أخرى ويكرر نفس الذكر (لا إله إلا الله وحده…). ثم ينزل يديه ويدعو مرة ثانية. ثم يرفع يديه ويكرر الذكر للمرة الثالثة، وبعدها لا يدعو، بل ينزل مباشرة ليبدأ شوطه نحو المروة.
فيكون المجموع: يقول الذكر ثلاث مرات، ويدعو مرتين بينها. هذه هي السنة الكاملة لمن أراد أن يطبقها بحذافيرها.
إن تطبيق هذه الخطوات هو أفضل استهلال لهذه العبادة، وهو من أهم ادعية السعي بين الصفا والمروة لأنه يضبط إيقاع العبادة كلها على هدي النبوة.
ماذا يقال عند المروة وفي بقية الأشواط؟
الهدي النبوي يتسم بالوضوح واليسر. القاعدة بسيطة: “فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا” كما جاء في حديث جابر.
عندما يصل المعتمر أو الحاج إلى جبل المروة في نهاية الشوط الأول، فإنه يفعل تمامًا كما فعل عند الصفا، مع فروقات بسيطة:
- يصعد على المروة ويستقبل القبلة.
- يرفع يديه ويكبر ويوحد الله بنفس الذكر النبوي السابق: “اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ…” إلى آخره.
- يكرر الذكر ثلاث مرات ويدعو مرتين بينها، تمامًا كما فعل على الصفا.
نقاط هامة يجب ملاحظتها:
- عند الوصول إلى المروة، لا يقرأ آية ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ…﴾.
- لا يقول “أبدأ بما بدأ الله به”. فهاتان السنتان خاصتان ببداية السعي عند الصفا في الشوط الأول فقط.
- هذا الفعل (الذكر والدعاء) يتكرر في كل مرة يصل فيها إلى الصفا (ما عدا الشوط السابع الذي ينتهي عند المروة) وفي كل مرة يصل فيها إلى المروة.
ماذا يقال أثناء المشي بين الصفا والمروة؟ (الحقيقة الكاملة)
هنا يقع الكثير من الناس في خطأ شائع بسبب انتشار كتيبات غير موثوقة. الحقيقة الواضحة التي دلت عليها السنة الصحيحة هي أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أي دعاء مخصص لكل شوط من أشواط السعي.
إذًا، ماذا يقال عند الصفا والمروة أثناء المشي؟
المشروع للمسلم في هذا الوقت الثمين هو أن يملأه بما يشاء من العبادات القولية. الأمر فيه سعة ورحمة، وهذا من جمال الإسلام. يمكنك أن:
- تدعو بحرية: هذا هو الوقت الذهبي للدعاء. ادعُ لنفسك، لوالديك، لأهلك، للمسلمين، اطلب ما تشاء من خيري الدنيا والآخرة. ادعُ بما في قلبك، بلهجتك، بصدق وحرقة. لا تتقيد بأدعية مسجوعة لا تفهم معناها، فالدعاء هو مناجاة بينك وبين ربك.
- تذكر الله: انشغل بالتسبيح (سبحان الله)، والتحميد (الحمد لله)، والتهليل (لا إله إلا الله)، والتكبير (الله أكبر). ردد “لا حول ولا قوة إلا بالله”.
- تقرأ القرآن: من أفضل ما يُشغل به الوقت في السعي هو قراءة ما تحفظ من القرآن الكريم.
هذه الحرية في الدعاء والذكر تجعل العبادة حية، وتجعل كل شخص يناجي ربه بحاجته الخاصة، بدلاً من أن تتحول إلى طقوس جامدة.
الدعاء المأثور عند الهرولة (بين الميلين الأخضرين)
مع أنه لم يثبت دعاء مرفوع إلى النبي ﷺ يقال أثناء السعي، إلا أنه ورد أثر صحيح عن صحابي جليل عُرف بشدة اتباعه للسنة، وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فقد كان إذا سعى في بطن الوادي (المنطقة المحددة اليوم بالميلين الأخضرين والتي يُسن للرجال الهرولة فيها)، كان يقول:
“رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ”.
وهذا الدعاء، وإن لم يكن سنة نبوية واجبة، إلا أن الاقتداء بفعل الصحابة وأقوالهم هو من الخير، خاصة مثل ابن عمر. فمن قاله فهو حسن، ومن دعا بغيره فلا حرج عليه.
أخطاء شائعة حول ادعية السعي بين الصفا والمروة
لضمان سلامة العبادة وقبولها، من الضروري التنبيه على بعض الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض الناس:
- تخصيص دعاء لكل شوط: كما كررنا، هذا هو الخطأ الأبرز ولا أصل له. الانشغال بقراءة دعاء معين من كتاب قد يفوت على المسلم فرصة الدعاء بما هو أهم له وبخشوع أكبر.
- الدعاء الجماعي الصاخب: أن يتبع مجموعة من الحجاج شخصًا واحدًا يردد الدعاء بصوت مرتفع وهم يؤمنون خلفه. هذا الفعل بدعة محدثة، لم تكن من هدي النبي ﷺ ولا صحابته، وفيها تشويش عظيم على بقية الساعين وإيذاء لهم. الأصل في الدعاء والذكر هو الإسرار.
- الاعتقاد ببطلان السعي بدون أدعية معينة: يظن البعض أن السعي لا يصح إلا بترديد أدعية محفوظة. وهذا غير صحيح. السعي يصح بقطع المسافة سبع مرات بنية التعبد، حتى لو لم يقل الساعي شيئًا. لكنه بذلك يحرم نفسه خيرًا عظيمًا وفضلًا واسعًا.
- تقبيل أو تمسح بجدار الصفا والمروة: لم يثبت عن النبي ﷺ أنه فعل ذلك، بل هو من الغلو والبدع التي يجب الحذر منها.
خلاصة القول: كيف تؤدي السعي على هدي النبوة؟
إن أداء هذه الشعيرة كما أداها النبي ﷺ هو غاية كل مسلم. ابدأ بالصفا قارئًا الآية، ثم كبر ووحد الله وادعُ. انزل متجهًا إلى المروة، شاغلاً لسانك بالدعاء والذكر وقراءة القرآن. هرول بين الميلين الأخضرين إن كنت رجلاً. عند المروة، افعل كما فعلت على الصفا من الذكر والدعاء. كرر ذلك سبع مرات، واجعل من هذه الدقائق الثمينة فرصة لتجديد علاقتك بربك، وسؤاله من فضله العظيم. إن فهم وتطبيق ادعية السعي بين الصفا والمروة الصحيحة هو مفتاحك لعبادة متقبلة بإذن الله.
المراجع والمصادر
للتأكد من صحة المعلومات الواردة في هذا الدليل، تم الاعتماد على المصادر التالية من كتب أهل السنة والجماعة:
- صحيح مسلم: حديث جابر بن عبد الله الطويل في صفة حجة النبي ﷺ.
- سنن الترمذي: باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة.
- مصنف ابن أبي شيبة: أثر عبد الله بن عمر في الدعاء ببطن المسيل.
- فتاوى اللجنة الدائمة (السعودية): فتوى حول تخصيص كل شوط بدعاء معين.
- موقع إسلام ويب: شرح صفة السعي وما يقال فيه.
